في الحج مشاهد وعبر

بسم الله الرحمن الرحيم
 
في الحج مشاهد وعبر
 
الشيخ : منصور طه
 
مقدمة  :
الحج من أعظم شعائر الإسلام التي تظهر عظمته وقوته ووحدة أمته ، وهو يذكر بتواصل الأمة واتصالها بالحنيفية واتصالها بربها  ، وهو فريضة العمر للمسلم المستطيع ، والمؤمن لا يزال متعلقا بالبيت الحرام ومحبا لهذه الشعيرة كلما  زار تجدد وزاد حبه وتعلقه . وحين يلبي الحاج  يتجرد من كل مألوفاته إخلاصا لله وتقربا إليه ، ويتجرد في عبادته ويزداد إيمانه . وقد جعل الله البيت مقصدا للناس بالتعظيم  وملاذا يلوذون به ، ويتوالون فيه جماعة إثر أخرى ، قال تعالى : ( وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا) [ البقرة 125] ، ( وهو جعل البيت الحرام مرجعا للناس يقصدونه ثم يثوبون إليه ، ومأمنا لهم في تلك البلاد بلاد المخاوف التي يتخطف الناس فيها من كل جانب ) [تفسير المنار] ، و الحج والعمرة  من العبادات العظيمة التي جمعت بين الرحلة والسفر إلى الله بالروح بالقصد والنية ، والسفر بالنفس إليه بالزاد والراحلة .
ومجتمع الصحابة أول مجتمع يقيم هذه الشعيرة مع النبي صلى الله عليه وسلم ، حيث عاش حالة شعورية في إحياء الحج على الحنيفية بعدما اعتراها ما اعتراها من عدوى الجاهلية .  ( وهذه الحالة الشعورية هي الحالة التي ينشئها الإيمان الحق ، عندئذ تتجرد النفس من كل مقرراتها السابقة وكل مألوفاتها، وتقف موقف الحذر من كل ما كانت تأتيه في جاهليتها، وتقوم على قدم الاستعداد لتلقي كل توجيه من العقيدة الجديدة، لتصوغ حياتها الجديدة على أساسها، مبرأة من كل شائبة ، فإذا تلقت من العقيدة الجديدة توجيها يقر بعض جزئيات من مألوفها القديم  تلقته جديدا مرتبطا بالتصور الجديد ، إذ ليس من الحتم أن يبطل النظام الجديد كل جزئية في النظام القديم ; ولكن من المهم أن ترتبط هذه الجزئيات بأصل التصور الجديد ، فتصبح جزءا منه ، داخلا في كيانه ، متناسقا مع بقية أجزائه .. كما صنع الإسلام بشعائر الحج التي استبقاها. فقد أصبحت تنبثق من التصور الإسلامي، وتقوم على قواعده، وأنبتت علاقتها بالتصورات الجاهلية نهائيا )  [في ظلال القرآن]
الآذان بالحج :
فقد اختار الله نبيه إبراهيم عليه السلام أبا الانبياء ، وكلفه ليبني بيته الحرام على القواعد ، ويقيمه على التوحيد وأن ينفي عنه الشرك ، وأن يهئ بيته للناس جميعا المقيم فيه والطارئ ، لايُمنع عنه أحد ولا يملكه أحد .  وأول من أذن بالحج أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام ، ( وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق) [الحج27 ] ، فاختاره ليعلن ويؤذن في الناس بأعظم عبادة هي الحج إلى بيت الله الحرام، فأجاب الناس لندائه من الآفاق ومازالوا يلبون تلك الدعوة وذلك الأذان ، واستمرت التلبية إلى زماننا هذا لا يخلو البيت الحرام من عمار وعباد ، وممن يلبون حجاجا ومعتمرين ، وتستمرالتلبية لا تنقطع إلى قيام الساعة .
ومازال المشركون في الجاهلية يقيمون هذه الشعيرة على الشرك والأوثان ، وكانوا يطوفون بالبيت ويلبون بقولهم :  (لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك )  ، و أدخلوا فيها كثيرا من التحريف والتخليط ، حتى أعلن بها النبي صلى الله عليه وسلم على التوحيد والصراط  ، فطهرالحج من الوثنية وجعله حجاً نظيفاً لا شرك ولا وثنية فيه ولا عري . إن الاسلام استبقى شعائر الحج وصحح الاعتقاد والتصور ، ورد ما دخل فيها من تخاليط ، وجعلها تقوم على قواعد الإيمان ، وقطع علاقتها بالتصورات الجاهلية . ( ففي السنة التاسعة من الهجرة وكَّلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر ليحج بالمسلمين . فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه بعثه في الحجة التي أمره النبي صلى الله عليه وسلم قبل حجة الوداع يوم النحر في رهط يؤذن في الناس لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان) .
الحج مقصوده :
الحج أحد أركان الإسلام ومبانيه العظام عبادة مالية بدنية ، قال تعالى : (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ، ومن كفر فإن الله غني عن العالمين) [آل عمران97 ] ، ويؤدى الحج في أشهر معلومة  (الحج أشهر معلومات ) [البقرة197]  ، ( من ملة إبراهيم التي لم تزل مستمرة في ذريته معروفة بينهم، والمراد بالأشهر المعلومات عند جمهور العلماء: شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، فهي التي يقع فيها الإحرام بالحج غالبا) [تفسير السعدي] .
(ووصف الأشهر بمعلومات على ما هو معلوم للعرب من قبل ، فهي من الموروثة عندهم عن شريعة إبراهيم ، وهي من مبدأ شوال إلى نهاية أيام المحرم ، وبعضها بعض الأشهر الحرم ؛ لأنهم حرموا قبل يوم الحج شهرا وأياما وحرموا بعده بقية ذي الحجة والحرام كله ، لتكون الأشهر الحرم مدة كافية لرجوع الحجيج إلى آفاقهم ، وأما رجب فإنما حرمته مضر ؛ لأنه شهر العمرة ) [التحرير والتنوير].
   (والمقصود من الحج الذل والانكسار لله والتقرب إليه بما أمكن من القربات والتنزه عن مقارفة السيئات، فإنه بذلك يكون مبرورا، والحج المبرور أقرب سبيل وأسهل طريق إلى الجنة ، فهو أعظم عبادة تكفر الذنوب وتمحو الخطايا وتضاعف الحسنات وترفع الدرجات ، والمبرور ليس له جزاء إلا الجنة ) .
قال تعالى : (فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) [البقرة197 ] ، ( وهذه الأشياء وإن كانت ممنوعة في كل مكان وزمان فإنها يتغلظ المنع عنها في الحج ) [تفسير السعدي] ، (وقد فسر بعض العلماء الرفث بأنه النطق بالفحش مما يكون بين الرجل والمرأة وغيره ; والفسوق بالسباب ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : (سباب المسلم فسوق ، وقتاله كفر ).   والجدال : المماراة والمنازعة . وعندي أن مرمى القول الكريم هو النهي عن كل قول يجعل اللسان غير نزيه ، وكل قول يؤدي إلى النزاع ، والجدال يؤدي إلى الخصام ; لأنهم اجتمعوا على مائدة الرحمن الروحية ليتعارفوا ، وليتلاقوا ، وليقوى اتحادهم ، ويعتزوا بعزة الله ، فيجب اجتناب كل ما يؤدي إلى النزاع والخصام . ) [زهرة التفاسير] .
( قال بعضهم : النكتة في منع هذه الأشياء على أنها آداب لسانية : تعظيم شأن الحرم ،  وتغليظ أمر الإثم فيه ، إذ الأعمال تختلف باختلاف الزمان والمكان ، فللملأ آداب غير آداب الخلوة مع الأهل. ويقال في مجلس الإخوان ما لا يقال في مجلس السلطان  . ويجب أن يكون المرء في أوقات العبادة والحضور مع الله تعالى على أكمل الآداب ، وأفضل الأحوال ، وناهيك بالحضور في البيت الذي نسبه الله سبحانه إليه..! وأما السر فيها على أنها محرمات الإحرام ، فهو أن يتمثل الحاج أنه بزيارته لبيت الله تعالى مقبل على الله تعالى ، قاصد له ، فيتجرد عن عاداته ونعيمه ، وينسلخ من مفاخره ومميزاته على غيره ، بحيث يساوي الغني الفقير، ويماثل الصعلوك الأمير، فيكون الناس من جميع الطبقات في زي كزي الأموات ، وفي ذلك - من تصفية النفس، وتهذيبها، وإشعارها بحقيقة العبودية لله، والأخوة للناس - ما لا يقدر قدره، وإن كان لا يخفى أمره...)  [تفسير القاسمي] .
   (ثم أمر تعالى بالتزود لهذا السفر المبارك ، فإن التزود فيه الاستغناء عن المخلوقين والكف عن أموالهم سؤالا واستشرافا، وفي الإكثار منه نفع وإعانة للمسافرين، وزيادة قربة لرب العالمين، وهذا الزاد الذي المراد منه إقامة البنية بلغة ومتاع.   وأما الزاد الحقيقي المستمر نفعه لصاحبه في دنياه وأخراه، فهو زاد التقوى الذي هو زاد إلى دار القرار، وهو الموصل لأكمل لذة وأجل نعيم دائم أبدا، ومن ترك هذا الزاد فهو المنقطع به الذي هو عرضة لكل شر، وممنوع من الوصول إلى دار المتقين، فهذا مدح للتقوى.) [تفسير السعدي]
المواقيت الزمانية والمكانية :
والتلبية شعار الحج التي يعلن فيها العبد بتوحيده وإخلاصه لله وسعيه وتجريده العبادة خالصة له مع البراءة التامة من الشرك : معبودات وعبادات وشعائر . وتجريد المتابعة للنبي صلي الله عليه وسلم واقتفاء آثاره وهديه واستحضار مشاهده في الحج.
في الميقات الزماني والميقات المكاني يتوافد ضيوف الرحمن وحجيج البيت الحرام محرمين متجردين من المخيط ملبين النداء من أقطار شتى وبلدان عدة فرقت بينهم الأمكنة والمسافات ، ووحد بينهم المقصد والمكان ، قد اختار الله في كل عام نخبة من عباده فوفقهم ويسر لهم تلبية النداء ، فعجلوا القيام  وبادروا وسارعوا ونهضوا للترحال ، واستهانوا بمشقة التسفار ومفارقة الأهل والأوطان ، تبعثهم علو همتهم وشوقهم إلى ربهم  . وكم من محبوس عن الحج  حبسه الفقر أو المرض أو الأسر ، أو حبسته عوارض أخرى في الطريق ، أو حبسه ضعف إرادته وانصراف قلبه وغفلته مع وفور الزاد والراحلة وتمام غناه وكمال صحته وعافيته .
الحج عرفة :
عرفة هو المكان الذي وقف فيه النبي صلي الله عليه وسلم ، والزمان الذي عكف فيه قاصدا ربه يرجو فيه رحمته ، تاركا سنته وهديه لأمته مخالفا شعائر الجاهلية عقائدها ومظاهرها ، ومعلنا تمام رسالته واكتمال بعثته وانبساط دولته وكيان أمته الممتد إلى قيام الساعة . عرفة يوم ومشهد يتكرر كل عام كل ما لبى الناس بالحج .
في يوم ومشهد عرفات مؤتمر عظيم وحشد كبير ليس له مثيل ، يجمع ممثلي الأمة من أقطارها الذين يسر الله لهم ووفقهم لأداء الشعيرة ، يجتمع الناس اختيارا على صعيد واحد وفي يوم واحد في عرفات ، الذي يشبه جمع الناس بعد النشورحيث يقفون الموقف على عرصات القيامة في خوف وذهول شديد . ولكن هنا الموقف في عرفات وقف الناس اختيارا يرجون رحمة الله ، والذي يشارك في الحج رغم ما يصيبه من مشقة السفر وتعب الترحال فإن جلال المقام وجمال اللقاء لقاء الأمة بعضها ولقاؤهم بربهم يتعرضون لكرمه ورحماته ينسيه ذلك التعب وتلك المشقة  . يقدمون وهم فرحون بلقاء الله ويلهجون بالدعاء والقرب من الله ، ويباهي الله  ملائكته باجتماع العباد على صعيد واحد وينشر رحمته وفضله على عباده الذي يغيظ الشيطان فلم يُر الشيطان مكروبا في الدنيا كهذا اليوم .
والقيام بعرفات يعلن كل عام وحدة الأمة وكيانها الممتد زمانا ومكانا ، ويبشر بعودة قوتها رغم ما أصابها من وهن وتفرق ، وقد فرقت بهم الأوطان وتقسمت بهم المذاهب والأفكار وباجتماع الناس على مكان واحد وزمان واحد ويتجهون إلى رب واحد وبلباس واحد وبشعائر متحدة تتحقق معاني الوحدة واجتماع الأمة .
في ايام منى :
في أيام منى يبدأ الحاج برمي جمرة العقبة يوم النحر ثم يوالي في الأيام التالية رمي الجمرات الصغرى والوسطى والكبرى ، ينفذ أمر الله امتثالا لطاعته وليس للعقل حظ فيه ، يتذكر تعرض إبليس للخليل إبراهيم عليه السلام الذي يوسوس ليثنيه عن طاعة الله  فرد كيده ، ولم يستجب له إبراهيم عليه السلام .
(وأما رمي الجمار: فأقصد به الانقياد للأمر إظهاراً للرق والعبودية ، وانتهاضاً لمجرد الامتثال من غير حظ للعقل والنفس فيه . ثم أقصد به التشبه بـإبراهيم عليه السلام حيث عرض له إبليس لعنه الله تعالى في ذلك الموضع لِيُدْخِلَ على حجه شبهة أو يفتنه بمعصية ، فأمره الله عز وجل أن يرميه بالحجارة طرداً له وقطعاً لأمله. فإن خطر في نفسك : أن الشيطان عرض له وشاهده ، فلذلك رماه،  وأما أنت فليس يعرض لك الشيطان؟ فاعلم أن هذا الخاطر من الشيطان ، وأنه الذي ألقاه في قلبك ؛ ليفتر عزمك في الرمي، ويخيل إليك أنه فعل لا فائدة فيه ، وأنه يضاهي اللعب ، فلِمَ تشغل به؟ فاطرده عن نفسك بالجد والتشمير في الرمي فيه برغم أنف الشيطان.) الامام الغزالي .
الحاج وهويكمل النسك وعند انتهائه من رمي الجمرات يبايع ويعاهد الله علي محاربة الشيطان وحزبه ودفع كيده وشره ، (فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور) الحج30، ( ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوي القلوب )  [الحج32] . فكما احتشد مع إخوانه المؤمنين في أداء المناسك وتعظيم الشعائر فهو يحتشد مع إخوانه المؤمنين في الالتزام بهدي الإسلام وتعظيم شعائره في حياته وفي نصرة دينه وسنة رسوله صلي الله عليه وسلم وفي دفع الباطل وحزبه .
مشهد التحلل وختام الحج :
(ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق)  [الحج29 ] يختم الحجاج حجهم وقد طافوا وذبحوا الهدي وطعموا وأطعموا البائس الفقير ،وقضوا نسكهم ، وأكملوا حجهم ، وحلقوا واغتسلوا وتطهروا . قد شابهوا الفقراء في عيشهم وحياتهم ، وشهدوا منافع لهم  دينية من العبادات والطاعات ، ودنيوية من المكاسب والمصالح . أقاموا شعائرالله وعظموا حرمات الله وتربت أنفسهم على المحافظة لحدود الله ، وقضوا أيامهم في ذكر الله ، وتعلقت قلوبهم ببيت الله وعظموه ، رجعوا إلى أهلهم وقد تطهروا من رجس الشرك وإثم المعصية ودرن الخطيئة ، فلما أخلصوا وأحسنوا العبادة أحسن الله إليهم طهرهم وضاعف لهم الحسنات ، ورفع درجاتهم ورجعوا مغفورا لهم . أيام الحج كانت معسكرا خاصا ومجتمعا خاصا يتربى فيه الحجاج ، وينشًأ تنشئة أخرى على هدي القرآن وهدي النبي صلي الله عليه وسلم .
وقال (تعالى): ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق ) " التفث ": الأوساخ والأدران التي تكونت بسبب المنع من الاستحمام . وحلق الشعر والعانة والإبط مما يوجبه الإحرام ، ويستمر به الشخص محرما لا يتناول شيئا مما حرمه الله (تعالى) ؛ وذلك ليعيش عيشة الفقراء ، فيحس بآلام الفقراء ، وبؤس المحرومين من زينة الدنيا ، وليكون الناس على سواء أمام الله ( تعالى) ، وليجيئوا إلى ضيافة الرحمن كما ولدتهم أمهاتهم ، ويخرجوا من الحج كما ولدتهم أمهاتهم ، وقضاء التفث يرمز إليه بحلق الرأس أو التقصير ، والاكتفاء بقدر من قص الشعر؛ وتقليم الأظفار؛ الذي كان ممنوعا بالتحريم ) [ زهرة التفاسير] .
 
 

 
10-09-2016
Print this page.
http://www.al-massar.com