الطائفية السياسية وتوظيف الاستبداد

الطائفية السياسية وتوظيف الاستبداد

بقلم: منصور طه

الطائفية والاستبداد وجهان وظهيران ، وجهان يبثان حقيقة واحدة الظلم والقهر وتفتيت الأمة . وهي ظهير للاستبداد ووجه آخر له ، والعلاقة بين الطائفية السياسية والاستبداد علاقة مزاوجة ، الاستبداد لاينبت وينمو إلا في حاضنة طائفية ، كما أن هناك جدلية علاقة واستمرار بين الطائفية والنعرات والاستبداد والعنف ، والأنظمة الاستبدادية درجت على سياسة القهر والاكراه . 

الاستبداد يعني : الاستئثار المطلق بالسلطة والتشبث مع العنف بالحكم ، ومن ناحية : سلب الحكم من أهله وأصحابه الحقيقيين وتحويل المصلحة العامة إلى مصلحة للخاصة ( وحرمان الناس من ممارسة حقوقهم الطبيعية في القول والتعبير والانتخاب والمشاركة السياسية الفعالة ، بعد أن تتم عملية السيطرة الكاملة على مقدرات الآخرين المادية ، وتدمير قيمهم المعنوية والإنسانية ، وإلغاء شخصياتهم المستقلة والمتميزة ، وتقزيمهم ومسخهم ، ليتم تحويلهم إلى مجرد أتباع أو عبيد لدى الحاكم المستبد ، وذلك بفعل القوة المادية القاهرة ، والمعنوية المضللة التي تلغي القوانين وتعطل التشريعات ، وتجعل من إرادة المتسلطين قانوناً ونظاماً وسبيلاً أوحد يجب أن يُعمل به ، إذ ليس هناك من حد أو معيار أو ضابط أو رادع ما للطاغية .. فهو يسخّر كل شيء لإرادته ورغباته ونزعاته، لا بل إنه يعتبر نفسه القانون الفصل والمعيار الحقيقي ، «فهو الدولة والدولة هو» ) .

فالطائفية والاستبداد أداتان تلغيان الحق العام وتسلبان الإرادة العامة للشعب ، والقيمة الطاغية لهما مناهضةُ لطبيعة الوطن الذي فيه تعدد وتنوع في الجغرافيا والارض والعرق والجنس والدين والثقافة . والتعدد والتنوع يصبح مشكلة أمامها تسعي للقضاء عليه ، والحقيقة ليست المشكلة في التنوع والتعدد ولكن المشكلة هي في التوظيف المتناقض للتنوع وصناعة الصراع والاحتراب . وليست المشكلة في الانتماء الى طائفة ، ولكن المشكلة  في الطائفية التي تختصر ثقافة وهوية وملامح البلد وتستبد بسلطانه وثرواته ومقدراته ، كما أنه ليست المشكلة في الانتماء لطائفة وخدمتها والعمل لها ؛ لكن المشكلة في السلوك السالب والظلم المتعدي على الآخر في حقوقه ووجوده . 

والتنوع والتعدد في تكوين الشعب والمجتمع سمة أساسية وصفة لازمة له ، وجبلة بشرية تتميز بها الانسانية، وعندما يكتسي التنوع والتعدد بالتعايش والتجانس بين مكوناته المختلفة فإنه يحظى بالاستقرار والأمن المجتمعي والسياسي ، ولكن التعدد والتنوع عندما تستدعى وتستثار فيه عوامل التناقض  يكون سببا في صناعة الحروب والصراعات الأهلية التي تفكك الوطن وتدمر المجتمع . 

وبالتوظيف السياسي للتنوع وصناعة العصبية الطائفية والتحريك العدائي لأفكار الكراهية والتعنت ـ تصنع الطائفية السياسية التي تؤدي إلى تفتيت المجتمع واستثمار ماكر للفتنة والكراهية ، عبر خطاب يثير القلق والخوف والاستحواذ والاستئثار الذي يلغي كل شئ للآخر ولا يبقي على شئ ، خطاب يستخدم السرية في أجندته أو الإشارات بعناوين مخادعة مخاتلة تقدم رسالة في اتجاهين : رسالة تغييب وتخدير للعقول ، ورسالة أخرى تعبر عن خطة ماكرة تبني عصبية طائفية وتهدم الكيان الشعبي والمجتمعي . والمستبد الطاغية يستخدم الطائفية كتوجه سياسي يسعى بها لإحكام قبضته وإيجاد أعوان في ترسيخ سلطته ، ويحصل بها على امتيازات ومكاسب وتمايز عن الطوائف الاخري . 
مفهوم الطائفية :   

وباستعراض مفهوم ومعنى الطائفية فإنها تدل على التعصب والتعنت المقيت ، وتحمل مبدأ وفكرة وسياسة نفي الآخر والقضاء على المغاير وعدم قبوله . كل هذه الأمور جعلتها ظاهرة مرضية في المجتمع والدولة . والطائفية منها الدينية والفكرية التي من سماتها التعصب لعقيدة وفكرة وفئة مبناها الهوى والانحراف يؤدي لسلوك عدائي ينتقص ويستأصل الآخر وينطوي على سلوك الإكراه للآخر المخالف ، وقد تكون مسلكا فكريا بإطلاق مصطلحات ومفاهيم عدائية نحو الآخر المخالف .

ومنها الطائفية الاجتماعية وتسمى ( العنصرية ) ، وهي مسلك اجتماعي تقوم على عصبية الجنس التي تتأسس على مفهوم النقاء والأفضلية العرقية.

ومنها الطائفية السياسية ، وهي سلوك متعصب عدائي لا يقبل بالآخر ، ويعمل على الانفراد والاستبداد الثقافي والسياسي والاجتماعي ، فهي مسلك سياسي لبناء نظام على طائفة واستئصال فئات أخرى . وقد تجمع الطائفية السياسية في مفهومها مسوغات العصبية النقاوة والطهارة العرقية ، أو الفكرية والانتقاص من الآخر ( حيث أن نظام الطائفة يتضمن نوعا من الإخضاع الاجتماعى وإدراك لعلو شرف الطائفة المنتسب إليها الفرد على ما دونها من طوائف) ، فقد تكون الحالة السياسية في البلد حالة مركبة من الطائفية والعنصرية والاستبداد ، وكذلك استبداد مجموعة في مستويات ، واستبداد الفرد في مستويات أعم . والمستبد الفرد يستغل المجموعة في تحقيق أغراضه .

الطائفية السياسية تخرج الطائفة من سياقاتها ودورها الطبيعيين لتخدم السلطوية التي تعمل كل ما في وسعها على الاحتفاظ بتوجيه موارد السلطة والثروة لخدمة الطائفة أو العصبة أو العائلة الحاكمة ، مستفيدة في ذلك من سيطرتها على مختلف مقدرات الوطن الاقتصادية والاجتماعية . تستخدم شعارات وأفكار تغطي علي جرائمها وسلوكها ، وتلون مشروعها و(تحافظ على واقع التجزئة والطائفية من ناحيةٍ ، وتقلّد نماذجَ تنمويةٍ من خارجها ، وتوظّف باستمرار شعارات التحرير والتنمية والأصالة لإعادة إنتاج النسق الاستبدادي وتزكية شرعيتها المنقوصة)، فتستخدم التقسيمات العرقية والاجتماعية والمذهبية ، بل تستخدم الدولة في البطش بالمخالفين وقهر مكونات الشعب الأخرى ، وتقوم بانتهاكات ممنهجة مريعة ، ترقى إلى مستوى تطهيرعرقي  وجرائم ضد الإنسان ، كما تتنهج سياسات ترغم على هروب شعبي كبير ومستمر من الوطن الواحد . هذه المسالك التي تنتهك حرمات المجتمع والنزوع الطائفي إلى الظلم والاقصاء والقسوة ، تؤدي إلى اتهام كل طائفة لأخرى بالانتهاك والتعدي ، وتفكيك المجتمع بالتصنيفات والاصطفافات الطائفية .
عوامل وأسباب الطائفية السياسية :

عوامل بث وقيام الطائفية عاملان : عامل داخلي في المجتمع ، يتمثل في النخب المثقفة والسياسية ، وفي بعض صورها وتجلياتها في البلد متعدد الطوائف والمتنوع في تكوينه الاجتماعي والثقافي ، تعمل نخبة طائفية لتوظف التنوع في اتجاه التناقض والتعارض توظيفا سياسيا من أجل حماية فكرتها وبسط سلطانها ، وتغيير الوجه السياسي والاجتماعي والثقافي  المتعدد إلى وجه طائفي متحكم يقصي الآخر ولا يقبل المغاير ، ويسند الاستبداد والطغيان . فالطائفية السياسية استراتيجية مرتبطة بالنخب الاجتماعية المتنافسة في حقل السياسة لأجل السيطرة والنفوذ في الدولة والمجتمع ، وعبرها يتم تأجيج الصراع والحشد الطائفي والفرزالاجتماعي .ونتيجتها في جميع الحالات تزييف الحياة السياسية الوطنية ، وتهديد الدولة ومؤسساتها بالتحول إلى أدوات لخدمة مصالح خاصة ، بدل أن تقدم المصلحة العامة على جميع المصالح الأخرى .

وعامل خارجي (هناك جانب آخر، لا يمكن إغفاله ، يتمثل في الدور الذي تلعبه القوى الإقليمية والدولية المؤثرة، والتي ليس من مصلحتها قيام دول ديمقراطية ومدنية قادرة على إنتاج سياقات تنميتها الاقتصادية والاجتماعية المستقلة ، والتخفيف من تبعيتها ، أياً كانت طبيعتها وشكلها ) ، وتعمل القوى الاستعمارية بغرض إحكام السيطرة وتفتيت الشعوب وحماية مصالحها ، ومنها أمريكا التي أفصحت عن سياستها التي تغذي الطائفية ، وتدعم نخبها لتأجيج الصراع وتصفية خصومها أو لصنع حالة عدم الاستقرار ، ولتحكم التوازن والسيطرة على الشعوب تعتمد على مبدأ تغذية العصبيات والانتماءات الأولية ؛ لضمان حاجة الجميع إليها ، وتشرذم المجتمع إلى طوائف متناحرة . وهذه السياسة الامريكية يوضحها ما قاله  زبغنيو بريجينسكي - مستشار الأمن القومي في مدة رئاسة جيمي كارتر 1977 -1981 : ( فإن أفضل وسيلة لتفتيت الأنظمة والدول والشعوب هي تعميق التعدد المذهبي والطائفي والعرقي ، من خلال تمكين طائفة بعينها ودعمها ، لقهر بقية المكونات ).
آثار الطائفية على الدولة والمجتمع :

فللدولة الطائفية آثارها المهدمة للبيئة السياسية والاجتماعية والثقافية والقيمية عبر مسالكها السيئة في الظلم والقهر وعدم الاسستقرار السياسي والتخلف الاجتماعي والاقتصادي ، والقبضة الأمنية والعسكرية التي تتحول إلى فوضى وحرب أهلية وعنف سياسي . وكذلك الإقصاء والقمع وإنكار الخصوصية الثقافية والحضارية لهذه المكونات المجتمعية ، وتلغي التعددية والتنوع الثقافي والاجتماعي بل تعمل عليى محو التاريخ الحقيقي للشعب والأرض والتاريخ المشترك ، وتغمط تجارب الآخرين . وتعتبر بداية الوجود والتاريخ من حيث بدأت . فتكون الدولة فاشلة ، والوطن مجزأ،  والامة مقسمة ، وذلك نتاج الدولة التي تكون مسرحا لتنازع العصبيات الدينية والقبلية ، والتي تنجم عن تعبئة العصبيات الطبيعية القائمة على القرابة كالعشيرة والقبيلة والإثنية أو المذهبية ، ويحصل التطابق مع آليات شراء الضمائر والرشوة والفساد ، بما يؤدي في النتيجة إلى تزوير الإرادة العامة ، والتلاعب بالرأي العام في سبيل تزييف اختياراته ، أو حرفها عن خطها الطبيعي المعبر عن مصالح الناس واختياراتهم بحرية ، والالتفاف على معايير الخيارات السياسية . ونتيجتها في جميع الحالات تزييف الحياة السياسية الوطنية ، وتهديد الدولة ومؤسساتها بالتحول إلى أدوات لخدمة مصالح خاصة ، بدل تقديم المصلحة العامة واعتبارها على جميع المصالح الأخرى . وتؤدي إلى أزمة سلطة وتدبير علاقة بالمجتمع ، واستبداد فئة واحتكار الدولة لفئة ضيقة أو طائفة محددة ، وتعمل الطائفية على اللعب على التناقضات واختلال التوازنات في المجتمع ، وتحول الدولة إلى طائفة في مواجهة الطوائف الأخرى . 

وبالسلوك الطائفي للنخبة الحاكمة للبلد تخفق في كسب الشرعية وتحقيق العدالة وحفظ الحقوق ، فتكون الدولة منسوبة لطائفة تفقد النسبة العامة مع ما ترتكبه من انتهاكات وظلم ، وبهذا تدفع عموم الناس إلى البحث عن حواضنهم ليستندوا إليها ويحموا وجودهم وأنفسهم ، فيحصل التمايز والاصطفافات التي يُؤجج بها الصراع ويتفكك بها البلد ، هذه المسالك الخاطئة تجعل البلد في مهب الريح ولا يهنأ بإستقرار وأمن ، ويقسم الشعب أيدي سبأ ، وليس هناك حقيقة من رابح وخاسر، بل الكل خاسر . والنتيجة النهائية أن الطائفية السياسية من العوائق الكبيرة التي تمنع بناء الدولة وتحول دون تحقيق الاستقرار السياسي ، وتعكس الميزان الاجتماعي والسياسي ، كما أن مشكلة الطائفية سبب و» نتاج لفشل القدرة على بناء دولة المواطنة «، وأن حل المشكلة يكمن « في إعادة بناء الدولة بشكل يوفر المساواة القانونية ، بما يضمن للمواطن الحقوق والحماية «.للخروج من الأزمة الطائفية وبناء الدولة .ولتحقيق الدولة الوطنية التي تستوعب كل مكونها الشعبي والخروج من الأزمة الطائفية لا بد من تضافر الجهود الشعبية والسياسية ؛ للقيام بالحوار والتفاوض الحقيقي والجدي بين المكونات لتحديد حقوقها وخصوصياتها وتعريفها لتكون محل اعتبار واتفاق ، ويكون ميثاقا للحقوق والواجبات ، الحوار يدور ليؤكد محددات السلم الأهلي والتعايش الاجتماعي ، ويتم توصيف الخطأ والصواب وتثبيت الحقائق كما هي في الواقع ، لا لتحميل طرف بأعباء الجريمة ومترتباتها ، ولا الخطأ وآثاره . كما ينبغي تحييد النخب التي تبث الطائفية لحماية مصالحها ، ويكون الاعتبار الحقيقي للروابط الاجتماعية التي تتعدى الطوائف والفئات ، والمساكنة في الأرض التي لا يمكن إغفالها وإلغاؤها ، وهي من المحددات الأساسية التي تحتاج إلى استحضارها ورعايتها من طرفي النزاع ، فإذا توافقت مكونات الشعب وتجاوزت الأطر الضيقة ومحددات التقسيم والنزاعات الطائفية التي تؤثر في صياغة الهوية والإطار السياسي ، حينها ينجح الشعب وتخرج الدولة الوطنية من أزمة التسلط والصراع الطائفي الذي يتسبب بقوة في تفكيكها وعدم استقرارها  ، والحوار يؤسس للاعتراف بالتنوع والتعدد واعتماد مبدأ التعايش والمساواة . والتوافق والحوار يصيغ  الهوية الوطنية الجامعة التي تعبر عن المكونات المجتمعية والثقافية تعبيرا متسقا ومتوازنا . ويعمل على إحياء التاريخ الحقيقي للأرض والشعب  دون اختزال أو قص وتوظيف سالب . وأن الدولة هي ملك لكل مكونات الشعب يحق لها التمثيل فيها ، وتقدم خدماتها لكل المكون دون حجب أو إقصاء . دولة المواطنة والقانون التي يتساوى فيها الكل وفق الحقوق والواجبات . ووحدة الأرض والشعب لا بد من النظر لقيام مشروع دولة وأمة دولة لا مشروع طائفة يؤسس على ولاءات وانتماءات ضيقة ، ويعبرعن الاقصاء والسحق للآخر، المشروع الذي يتأسس على الاعتراف المتساوي وحماية الحقوق ، والذي يعبر عن الهوية الوطنية وينبع من المكون الشعبي والمجتمعي قيما وثقافة  . وبناء التوافقات السياسية على مشروع سياسي يلبي الحاجة السياسية في العدل والحرية والمشاركة السياسية ، ويلبي الحاجة الاجتماعية والثقافية في التنوع والتعدد. وبالحركة الجادة والمتضافرة والارادة القوية لكل المكونات الشعبية والسياسية والرؤية التي تتسع للمطالب الحقيقية وحل المشكلات وروح التفاهم يتم الخروج من الأزمة الطائفية ويتحقق قيام الدولة الوطنية التي تلبي آمال الشعب وتطلعاته في العيش الكريم على أرضه ووطنه .

 
17-12-2016
Print this page.
http://www.al-massar.com