الحل السياسي في المعارضة الرشيدة

الحل السياسي

في المعارضة الرشيدة

الحل السياسي يكمن في المعارضة  الرشيدة ، التي تصنع الدولة الرشيدة ، وتزيل الاستبداد والظلم والفساد ، والتي أجادت تصور الرشد والعدل ، وعرفت مسالكه وطرائقه . 

بداية لا بد من فهم كيف يصنع الحل السياسي في إرتريا برغم المعوقات التي تعوق العمل الناظم من أجل الإصلاح وتحقيق التغيير السياسي ، وما يحدث من ضعف وانقسام القوى السياسية المعارضة (التي تتهارش بينها في لا قضية ولا موضوع) ، وفي ظل الرتابة السياسية في جو التناقضات بين الكيانات المختلفة، والعيش علي رصيد تاريخي لمرحلة التحرير ومقاومة المستعمر وعدم القدرة على انتاج عوامل ووسائل القوة لمكافحة الاستبداد  .

من الضروري التساؤل عن الأهداف والمشاريع التي حققتها وتسعى لها قوى المعارضة ، فإن قوة المقاومة تكمن في قدرتها على طرح البديل السياسي كفكر وسياسة وممارسة حية (السلوك البديل القبول بالتنوع والتعددية والحرية في الرأي والمواقف وبناء واحترام المشتركات والثوابت والقيم) . ويكون الفشل إذا كان النموذج الممارس للديمقراطية والتعددية في اطار المعارضة نموذج فوضوي عبثي تناقضي، يسعى الكل لفرض موقفه ووجهة نظره عبر وجوده الاعتباري وسنده السياسي ، ولا يعمل ضمن القيم المشتركة والتوافق. أو نموذج اخر ونسخة أخرى للاستبداد والطغيان .

الحركة الاصلاحية يكمن دورها وتأثيرها في فاعليتها الإصلاحية والتعاطي مع الواقع ومشكلاته وفهمه وإعطاء الإجابات الإصلاحية التي تغوص إلى عمق المشكلة ومساراتها الواقعية التي لا يمكن تجاوزها ، وتستند إلى عمق فكري فاعل وفهم واقعي عميق ، وقدرة على بلورة خطاب عملي يلخص المشكلات ويلخص الحل ، ويستجيش الروح العامة نحو أهداف وغايات تشمل الإصلاح السياسي والإصلاح القيمي والثقافي والإصلاح الاجتماعي. ويجب أن يكون الخطاب تعبيرا حقيقيا للتغيير والإصلاح، ويستوعب مطلوبات الواقع وقضاياه الأساسية ، ورسما واعيا لطريقه ونهجه لتحقيق الأهداف والغايات .

والقوى السياسية التي تنفتح للملمة أطرافها وأفرادها قادرة على صناعة محفزات التلاقي والعمل من أجل هدف واحد وغاية واحدة . في مواحهة نظام سياسي استنفد كل سياسات ووسائل التخريب ، ويمر بحالة من الشلل والتحلل الذاتي ، ينتج كل يوم ألوانا من الظلم والطغيان والانتهاك للقيم والإنسان والبنية الاجتماعية وإهدار مقدرات الشعب والأرض ، مستمر على خنق آماله وطموحه.يعمل ذلك دفاعا عن استبداده وتمديدا لعمره وتقوية لقبضته . وللأسف أنظمة الاستبداد لا تعيش إلا في ظل الفساد وغياب وعي الأمة وضعف إرادتها ، وتفرض نفسها باسم التحرر ومكافحة الاضطهاد والاستغلال ، ولا تخلِّف إلا القتل والدمار ، و(إذا كان الظلم بكل صفاقة يتغنى باسم الحرية والعدل والنهضة والتطور) فماذا بقي من قلب وتزييف الحقائق؟.

تمارس الجبهة الشعبية احتكارا ثقافيا وتفكيكا للبنية الثقافية والاجتماعية في البلاد . والنظام التعليمي في إرتريا عبر مشروع ساوا  مبني على ترسيخ نظام السخرة والاستعباد ليكون المجتمع كله مجرد قطيع محكوم في حظائر، مع الإلهاء والاستنزاف للمعارف والقدرة العلمية وفقدان قيم النهوض والاستعلاء.

وفي الحقيقة إن تمديد عمر هذا النظام وأسباب استمراره حاصل بخطوات عملية منه ، وبخطوات سلبية من القوى المعارضة وسلوك يصب في مصلحة النظام وإخلاء الساحة له ، وبخطوات سلبية من عموم الشعب ، لكن عوامل التناقض فيه وأسباب الزوال تتراكم حتى تقضي عليه ، والفعل الخارجي يسرع من وتيرة الانهيار  .

النظام معزول داخليا من قبل الشعب ومن كثير من أجهزته ومراكزه التي تعاني من التفكك ، فيعيش الشعب حالة من السخط نتيجة سياساته المخربة التي تبسط مزيدا من الظلم والقهر والانتهاك . لكن هذه الحالة غير مستثمرة في اتجاه المقاومة والحراك المناهض، مما يلفت الانتباه لضرورة ترجمة هذا في حراك عام مناهض للظلم والقهر.

ولكن التحدي الماثل الآن أمام قوى المعارضة وكتلة التغيير التاثير السلبي للنظام الاستبدادي على البيئة المجتمعية وتفكيكها إلى قوميات ، وظهور أصوات  نشاز عنصرية وطائفية ، والتي تتنادى لتربك المشهد السياسي والوطني ، وتوجد تداعيات سالبة تضيع القضية الأصلية . ولكن ما يحدو للعمل الإيجابي  ويبعث العزائم والمفاخر  التيار الاستقلالي إبان الاستعمار الذى أضحى يتشكل في المراحل التاريخية المتتالية ويأخد أبعادا مختلفة، وظل الخطاب المركزي له الحرية والاستقلال ،  والعدو  هو المستعمر الإثيوبي  اجتمعت به بوصلة المجتمع وخياره ، حيث واجهت الكتلة الاستقلالية الأصوات  الناشزة التي كانت ضد مصلحة الشعب الإرتري وتناغمت مع المستعمر ، وكانت حارسا أمينا لمصالحه ، وجنودا في خدمته . وفي النهاية كان للمسار الاستقلالي الحظ الأعلى من الغلبة ؛ لأنه يمثل الأشواق الحقيقية لعموم الشعب الإرتري الذي برهن له بصموده وصبره وتضحياته الجسام والغالية .

والتحدي الآخر التوجه الدولي والإقليمي لتسكين الأزمة السياسية في إرتريا بالتعاطي معها كقضية لجوء شعبي نتيجة الوضع الاقتصادي المتردي والوضع المعيشي البئيس ، وحجب الرؤية عن حقيقة الأزمة وأس المشكلة في النظام القاتل لشعبه والذي يمارس كل ألوان الاضطهاد والظلم . وتحديدا النظر إليها من زاوية مشكلة التدفقات البشرية التي تتزاحم موتا وعبورا الى البر الأوروبي ، وقصر المهمة في حماية وتنظيف الشاطئ المتوسطي ومكافحة الهجرة إلى أوروبا . وحقيقة الموقف الغربي الحقوقي والإنساني كان منزعجا من نتيجة تقرير حقوق الإنسان في إرتريا وحجم الانتهاكات بحق الشعب الإرتري ، لكن الموقف السياسي كان تجاوبه ضعيفا سوى بعض المنعطفات والأصوات التي لم ترق إلى تفعيل القضية رغم فداحة ماعرضته التقارير الحقوقية، ورغم أزمة النظام الخانقة وهو مصدر قلق إقليمي ومصدر تصدير المشكلات إلا أن الإقليم لا يتفاعل ، وما كان من  تفاعل للقوى الدولية والإقليمية مع قضية الشعب الإرتري ليس من أجل أن يتحقق له البديل الديمقراطي والحرية والسيادة للشعب . بل هي لأهداف وأغراض أخرى تحقق له مصالحه في المنطقة .

والقضية الباردة التي لا تجد محركات ثورية ولا شعبية ، ولا تحريك اعلامي ولا تحريك سياسي . فالقضية ليست ساخنة بحركة شعبية وإرادة مقاومة للاستبداد  وفي ظل الهروب الشعبي المهول من الوطن  الهروب الشعبي المستمر وهروب أفراد أجهزة النظام  المختلفة (حتى أضحت فئة الشباب والعنصرالحيوي من المجتمع  بكاملها خارج البلاد) .

ولكن الطريق الصحيح يبدأ من النظر في الموقف المعارض ودوره وأدائه، فإذا غابت المبادئ والثوابت في ميدان التعاطي السياسي ، وإذا غابت المشتركات السياسية التي تكون حاكمة وحادية للفريق والفرقاء الوطنيين ، وإذا لم يتم توصيف المشكلة الوطنية بشكل دقيق ، وتوصيف الاستحقاقات الوطنية ، فإن هذا من الأسباب الأساسية أن تعيش القوى السياسية مرحلة تيه سياسي وتعارض المشاريع السياسية ، وظهور تيارات طائفية تحمل وجهات عدائية، وتفسيرات تاريخية محرفة تقلب الحقائق وتحرف المفاهيم ، وقوى سياسية عاجزة عن الوفاق وعاجزة عن ايجاد مشروع جاد للمقاومة والمناهضة للاستبداد ، وتفتقد مع تشرذمها إلى الفعل السياسي المؤثر في مجريات الأحداث في البلاد ، ولا تستطيع أن تحرك دبلوماسية مقاومة تعمل على الضغط السياسي على النظام والمجتمع الدولي والإقليمي وإيصال الفكرة ، وينعدم  الخطاب السياسي الذي يعبر تعبيرا حقيقيا عن المشكلة والأزمة والذي يرسم النقاط الأساسية للمشكلة ، والذي ينقل المجتمع في وعيه وتصوره من التصوير والنقاط المجتزأة التي تحرف مدلول القضية ومعناها ومسارها. كما تفتقد للخطاب الداخلي إلى الشعب والنظام ومؤسساته الذي يوٍّصف القضية والمشكلة ويلملم أطرافها ويحدد المطالب الوطنية في السياسة والهوية والثقافة والاجتماع ، حتى لا تتشتت المفاهيم وتبرز أفكار نشاز هنا وهناك.

ولذلك لا بد من تحديد هل تختلف القوى السياسية في المبادئ والثوابت الوطنية ؟ أم أنها لا تختلف فيها ؟ ولكن لم تضبطها برسم واحد، حتى تكون واضحة وحاضرة في سلوكها وحركتها وعلاقاتها. أم تختلف في المكاسب السياسية، فلكل فريق مكاسبه السياسية التي يسعى لها ويراكمها ويسارع جهده في سبيلها.

ومن البديهي أن قوى المعارضة والمقاومة نشأت استجابة لتحدي الاستبداد والقهر السياسي ، ولذلك لا بد أن تتحلى بأدوات ووسائل مناهضته ، وتملك مشروعا واضحا للمقاومة والكفاح تلتف حوله وتعمل في ظله . مشروع يطلق كل الطاقات المناهضة والمقاومة للاستبداد والظلم ، ويستوعب كل أدوات ووسائل الكفاح الفاعل ، ويؤدي رسالته باقتدار، فإن  جهود التغيير الكبيرة تتكون من آلاف الجهود الصغيرة .

في البدء لا بد من رسم وتحديد المشتركات والثوابت الوطنية (وثيقة المبادئ والثوابت الوطنية) التي تشكل محددات لكافة القوى السياسية ، ومشروع الكفاح الذي ترسم به نهج الكفاح وتحدد معالمه وملامحه ومطالبه، وذلك بالحوار بين القوى السياسية والمجتمعية ليشكل أرضية يتم التواثق عليها لضبط التوجه الوطني والسياسي العام ، ولتحمى من كل الفئات وترعى من كل الجهات ، وليكون الإيقاع السياسي العام مختلفا أو مؤتلفا يتسق مع هذه المشتركات والثوابت ، ويمارس التعدد والتنوع في إطارها . ثم تكون مقاربة ثقافية وهوياتية تبني على التنوع الذي يثري بألوانه المختلفة والتناغم في مكونه البنيوي

إن صياغة مشروع للمقاومة ومفهوم للكفاح ضد الدكتاتورية يحدد المسار المقاوم وفق هذا المشروع ، والأهداف المحددة  وتعمل به لتصليب الإرادة الشعبية في الكفاح  وتعمل على لملمة معاناتها هي مسلمات وأهداف النشاط والحركة السياسية ، والتحرير من الاستبداد والطغيان السياسي والطائفي وتحقيق الاستقرار السياسي في إرتريا والإقليم وتحقيق الحرية والعدالة والمساواة لكافة الشعب الإرتري وإعادة التوازن السياسي والثقافي في إرتريا ، وإبراز الهوية الإرترية التي تستوعب التنوع الثقافي والاجتماعي وتعبر عن كيانه ووجوده الحقيقي لا أن تقوم على الاستلاب والخطف .

حين تمارس المقاومة المشروع والمبادئ التي ترفعها ، كممارسة الحرية ، وإتاحة الباب للرأي الآخر وإجادة الحوار في معالجة القضايا والاختلاف ، والعمل على تثبيت المبادئ والقيم المشتركة التي تصون المجتمع وتحمي وحدته واإادته الجامعة ، وتحيي القيم المشتركة التي  تحمي الحرية والعدالة وتصون الحقوق والأمان المجتمعي ، والتعاون والتواصل ، وتدفع الظلم والعدوان ، وتطوير ذلك لقيام مجتمع يعلي قيم الحق والحرية والعدل . فإن المقاومة تخوض بهذا تجربة سياسية ومرانا حقيقيا لصناعة البديل السياسي الذي يتم بلورته عبر سلوكها وكفاحها في إبراز ما تؤمن به من قيم ومبادئ ونظم تتحاكم إليها ، وتحكم بها ، وتقيم بها نجاحها في الممارسة السياسية التي تستوعب التنوع في إطار وسقف واحد ومشتركات تكون محددات لأدائها وعملها  ، وهي تعمل ما قبل سقوط الاستبداد في إبراز معالم البديل السياسي ، وما بعد سقوطه لتأسيس الدولة الجديدة وإزالة الآثار والمعيقات التي تمنع قيامها  ، وتصنع التجربة السياسية الراشدة لقوى المعارضة ، وهي تختلف وهي تتفق ، وهي تتحاور وتناور في سقف واحد ومشتركات وثوابت متفق عليها .

وعلى صعيد الخارج أن تعمل دبلوماسية القوى السياسية بنشاط مشترك وخطاب واحد لكشف الجرائم والظلم الحاصل ، وعمل اختراقات إعلامية ودبلوماسية على المستوى الإقليمي والدولي ، وكسب الدعم الخارجي للموقف السياسي وتحريك القضية ، والعمل على تحريك كل العناصر التي لها قدرة وفضاء في العلاقات الخارجية  .

ومطلوب من المعارضة تجاه الشعب  حماية وحدته ووحدة إرادته ، ومقاومة كل أساليب تفكيكه وتفتيته  ودعمه ضد كل الأصوات النشاز التي تنال من وحدته وتضعف إرادته ، وهناك أصوات محبطة وتبعث الإحباط  وتنال من وعي الشعب وتشوش على مسيرته وكفاحه ، هذه الأصوات النشاز التي تدعو إلى طائفية أو عنصرية إنما تدعو إلى مشروعات فاشلة لا يمكن أن تكون مشروعات نهضة أمة.

إن مشروع الاستقلال لما كان مبدأه راسخا لدى الشعب ، وصمد القطاع الأكبر في سبيله ، كان له أثر في موت المشروع الثاني الذي كان يعني الانضمام إلى إثيوبيا الاستعمارية ، والذي استخدم مسالك مختلفة وكثيرة منها سياسة إظهار القوة والرعب ، وزرع الضعف وعدم الثقة ، صناعة الصمت وصناعة الإذعان والهوان ، ونفسية توفيق الأوضاع والتعايش مع مسالك الظلم وتجريد الإنسان من إنسانيته ، مما دعا ذلك قطاع من الشعب إلى الهروب إلى الخارج .

وهذا طور ومرحلة أراد النظام أن لا يكون للشعب وجود حقيقي وأن يذوب تحت وطأة آلة ظلمه وبطشه التي تبطش بالكيان والقيم والهوية ، ولكن هو الشعب الذي خاض أطول حرب تحرير بشجاعة وحماس . رغم محنته التي لقيها من هذا النظام في هذه الفترة ، التي فاقت كل التصورات وفاقت كل ما لقيه من الاستعمار في كل حقبه .

والمقوم الرئيس للمقاومة هو وعي الشعب بدوره في الكفاح ووعيه بقوته وإرادته التي لا يقف أمامها الطغاة ووعيه بموقفه الهام والمفصلي  في مقاومة الاستبداد ، وتمسكه  بحقوقهم بوصفهم مواطنين لا رعايا واحرار لا عبيد ، وأن يمارسوا حقوقهم الانسانية ، بلا قهر ولا تسلط  ولا وصاية من أحد من الناس .

وفي النهاية تستند مقاومة الدكتاتورية إلى فهم ثقافة المقاومة السياسية للأنظمة الاستبدادية ، والتحلي بأدوات الكفاح ، وبث الوعي في المجتمع .  لا بد ان يهدم الاستبداد والطغيان في قيمهه وسلوكه وفكره وتوجهاته ، بسلوك عملي وفكري ونفسي .

وسقوط الدكتاتورية لا يعني قيام نظام حر يلبي المطالب الكلية ، بل يعني زوال العقبة الأولى وفتح الباب لإزالة معوقات أخرى ، وبذل جهود لعمل طويل في البناء . وتبقى خطوات أخرى ومراحل في المسيرة التي ينبغي العمل فيها بجد لتتحول المقاومة  إلى البناء ، لأن النظام الدكتاتوري خرَّب العلاقة والمنظومة الاجتماعية والسياسية والبنية الاقتصادية ، وخرَّب القيم والمبادئ المشتركة للأمة ، وبنى بئيات مصالح ارتبطت به ، وهذا جهد آخر في ميدان تال لمقاومة الاستبداد.

بقلم منصور طه

 
22-05-2017
Print this page.
http://www.al-massar.com