"سد النهضة" هل يؤدي إلى ازدهار تنموي؟ أم يزيد في أزمات المنطقة؟!

"سد النهضة" هل يؤدي إلى ازدهار تنموي؟

أم يزيد في أزمات المنطقة؟!

كتبه أبو حسام :

بسبب هطول الأمطار الغزيرة في الهضبة الإثيوبية فإن دولة إثيوبيا تتمتع سنويا بموارد مائية هائلة تقدر بـ  84 مليار متر مكعب، وإن نسبة قليلة منها تستغلها إثيوبيا في مشروعات عادية تتركز في الزراعة، ويتجمع فائضها وهو الغالب في نهر النيل الأزرق لتصب في السودان ومصر باعتبارهما دول المصب والتي هي بدورها بنت حياتها ومشروعاتها التنموية على هذه المياه الجارية إليها من الهضبة الإثيوبية.

وفي السنوات الأخيرة اتجهت إثيوبيا نحو الاستفادة بدرجة أكبر من ثروة المياه التي تذخر بها سعيا لتحقيق نهضة تنموية كبيرة، فقررت الحكومة الإثيوبية إنشاء سد أسمته (سد النهضة) الذي يعتبر من أهم المشروعات الاستراتيجية التنموية لتوليد طاقة تقدر بـ 5.250 ميجاوات تغطي احتياجات الدولة بالإضافة إلى استثمار كميات كبيرة منها ببيعها إلى الدولة المجاورة ومن أهمها السودان التي تعول على كهرباء هذا السد لحل إحدى أزماتها المستعصية، وشرعت إثيوبيا في العمل على إنشائه في إبريل عام 2011م على النيل الأزرق بولاية بني شنقول بالقرب من الحدود الإثيوبية - السودانية، على مسافة تتراوح بين 20 و40 كيلومترا. وحسب الخطة الموضوعة لبناء سد النهضة فإنه يعد أكبر سد كهرومائي على مستوى القارة الأفريقية والعاشر عالميا في إنتاج الكهرباء، وقدرت تكلفة بنائه ب 5 مليارات دولار.

ونظرا لكبر حجم هذا السد فإنه وبعد الاكتمال من تشييده بصورة نهائية يحتاج إلى كميات كبيرة لملئه تستغرق سنوات، يزيد عددها وينقص حسب حجم الكميات المستخدمة للملء، وبالطبع فإن عملية الملء هذه ستؤثر على الحصص التي كانت تفيض إلى دولتي المصب السودان ومصر، حيث ستقل إلى مستويات تضر بمصالحهما ومشروعاتها التنموية القائمة على مياه النيل. وهذا أحد محاور أزمة سد النهضة القائمة بين دول نهر النيل (إثيوبيا، السودان، مصر)، تخشى مصر من أن تؤدي طريقة ملء وتخزين المياه في هذا السد إلى الإضرار بحصتها من مياه النيل، والتي تعتمد عليها مصر بنسبة أكثر من 90% في الشرب والزراعة والصناعة. وتعتبر مياه نهر النيل شريان الحياة الرئيسي ومسألة أمن قومي للمصريين.

وبحسب اتفاقية 1959 منحت مصر 55.5 مليار متر مكعب من مياه النيل ما نسبته 66% من إجمالي تدفقات المياه، بينما حصل السودان على 18.5 مليار متر مكعب أي 22%.

ويعتبر المصريون أن هذه الاتفاقية والاتفاقيات السابقة لها سارية المفعول ويصرون على ضرورة أن تحترم دول المنبع حصة مصر المحددة في هذه الاتفاقيات، وأن يكون لها حق الموافقة المسبقة على أي منشآت تقام على طول نهر النيل أو أي من روافده. فيما ترفض إثيوبيا بشدة معاهدات مياه النيل تلك بحجة أنها لم تكن طرفا في إبرامها، وأنها تفتقر لأي أساس قانوني وتحرم إثيوبيا من استغلال مياه النيل بشكل عادل ومنصف.

وبالنسبة للسودان فإنه يرى سد النهضة مفيدا له، فهو يقيه السودان من أخطار الفيضانات المتكررة، ويمكنه من الحصول على كهرباء رخيصة هو في أمس الحاجة إليها، ومن هنا يتضح بأن أزمة سد النهضة طرفيها الرئيسيين هما مصر وإثيوبيا، وأما السودان فهو في الموقف الوسط ويتماهى في غالب الأحيان مع الموقف الإثيوبي للمصلحة التي يرجوها من سد النهضة، وما يؤكد ذلك موقفه الأخير وتحفظه على البيان العربي الداعم والمتضامن مع الموقف المصري ومطالبها في سد النهضة.

ومنذ أن فكرت إثيوبيا في سد النهضة بصورة جادة ظهر القلق المصري وبدأ تحركاته الخارجية لإثناء الجانب الإثيوبي من هذا التوجه لكن دون جدوى، وبالتالي لم يكن بد من إجراء المفاوضات بين الأطراف المعنية (إثيوبيا ومصر والسودان) للوصول إلى تفاهم واتفاق بشأن تشغيل السد بما يؤمن مصالح كل الأطراف ولا يحدث ضررا بأي منها. وقد أدارت هذه الأطراف مفاوضات مباشرة بينها دون وساطة خارجية أدت في عام 2015 إلى الاتفاق والتوقيع على وثيقة (إعلان مبادئ) حول سد النهضة بعد محادثات مضنية تخللها التلويح بالحرب مرات عديدة. ورغم أن الوثيقة انفردت بمراعاة المصلحة الإثيوبية وأعادت التأكيد على مبدأ الاستغلال المنصف والعادل للمياه، فإنها لم تفلح في حل نزاع طال عليه الأمد بين الدول الثلاث حول معاهدات تقاسم مياه النيل.

ومع أن تلك المعاهدات تظل من القضايا العالقة، فإن ما يدعو للدهشة أن الأطراف المعنية لا تناقشها علنا حتى أنها صارت معضلة عصية على التناول.

وفي محاولة لدفع عملية التفاوض المتعثرة استضافت العاصمة الأمريكية واشنطن في نوفمبر الماضي مفاوضات بوساطة من البنك الدولي ووزارة الخزانة الأمريكية حضرتها مصر والسودان، وتغيبت عنها إثيوبيا، قدمت واشنطن مسودة للاتفاق النهائي قالت عنها وزارة الخزانة الأمريكية: "إن الاتفاقية بشكلها الحالي تضع حلولاً لكل القضايا العالقة حول ملء وتشغيل سد النهضة وتتأسس على المبادئ المتفق عليها بين الدول الثلاث في إعلان المبادئ الموقّع في 2015 وبالأخص مبدأ الاستخدام المنصف والمعقول، ومبدأ الالتزام بعدم إحداث ضرر جسيم ومبدأ التعاون". وشدد الجانب الأمريكي على «أهمية عدم البدء في ملء سد النهضة من دون إبرام اتفاق بين مصر وإثيوبيا والسودان».

وقعت مصر على اتفاقية المسودة المقدمة من أمريكا وأبدت السودان ملاحظات عليها، بينما إثيوبيا قالت بأنها لا توافق على ما جاء في الاتفاقية فيما يخص قواعد ملء وتشغيل السد؛ لأنها تعكس رأي مصر وليس الدول الثلاث.

يبدو أن إثيوبيا عازمة على المضي قدما في إكمال السد والشروع في عملية الملء والتخزين حتى وإن لم يتم التوصل إلى اتفاق نهائي توقع عليه الأطراف المعنية، ومصر تكثف تحركاتها لحشد رأي دولي على المستوى المحلي والعالمي يدعم رؤيتها، كما فعلت مع جامعة الدول العربية التي جعلتها تصدر بيانا داعما لها، وكذلك محاولاتها لكسب الموقف الأمريكي، بالإضافة إلى محاولة تكثيف تحركاتها في أفريقيا وأروبا، كما أن علاقاتها المتنامية مع إرتريا ووجود معلومات عن إيجاد قاعدة عسكرية لمصر في جزيرة نورا الإرترية أًصبح يثر قلق حكومة إثيوبيا وتعتبر أن هذا تحرك يستهدفها.

في مقابل ذلك تسعى إثيوبيا إلى كسب مواقف الدول الأفريقية لصالحها حول سد النهضة وخاصة دول حوض نهر النيل وتعمل على وضع كل الترتيبات اللازمة لتأمين سد النهضة تحسبا لأي استهداف خارجي ، وقد يكون الاهتمام بتكوين قوة بحرية في البحر الأحمر أحد هذه الترتيبات.

ومن خلال متابعة أزمة سد النهضة منذ بدء إنشائه وما وصلت إليه المفاوضات الخاصة به من طريق مسدود حتى اليوم، وفقد الأطراف الثلاثة الثقة فيما بينهم في الوصول إلى حل قريب، والاتهامات المتبادلة بالإعاقة وعدم الجدية، والتلويح بالخيار العسكري بشكل غير صريح. نستطيع القول بأن الأزمة دخلت مرحلة أكثر تعقيدا، وإذا لم يتم التوصل إلى اتفاق يضمن مصالح الأطراف ويدفع عنها الأضرار المتوقعة حدوثها في مرحلة ملء السد بشكل عادل ومنصف، فإن الأطراف الثلاثة ستدخل في صراع متعدد أمني وسياسي واقتصادي، واستقطابات دولية سيؤدي إلى أضرار وأحداث مدمرة ليس فقط على الأطراف الثلاثة، وإنما على منطقة شرق إفريقيا بأسرها.

ولا مندوحة من دخول وسطاء دوليين محايدين يحظون بتقدير وثقة كل الأطراف لتقريب وجهات النظر وتجاوز الخلافات بمقترحات مبنية على ضمان تحقق المصالح ودفع الأضرار بشكل عادل ومنصف لكل الأطراف، هذا ما نأمل الوصول إليه حتى تشهد دول هذه المنطقة أمنا واستقرار الذي هو أساس النهضة والتنمية التي تحلم بها شعوب هذه المنطقة بعد حرمان مريع.

هل يمكن أن يكون سد النهضة عاملا مهما في ازدهار تنمية المنطقة ورفاهية شعوبها؟، أم يكون نقمة ونكبة جديدة تزيد من معاناة شعوب المنطقة؟! .

الأمر يتوقف على رشد الممسكين بملف السد وحكمة قيادات الأطراف الثلاثة وإدرتها لهذا الملف بروح إيجابية، والاتصاف بالمسئولية والنظرة الشمولية لكل مصالح الأطراف وأضرارها بصورة عادلة وبعيدة عن الأنانية.

*********

 
03-06-2020
Print this page.
http://www.al-massar.com